فصل: فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: وَيَعْمَى عَنْ نُقْصَانِ الْخَلْقِ عَنْ دَرَجَتِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: وَيَعْمَى عَنْ نُقْصَانِ الْخَلْقِ عَنْ دَرَجَتِهِ:

يَعْنِي أَنَّهُ- وَإِنْ كَانَ أَعْلَى مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ مِنَ النَّاقِصِينَ عَنْ دَرَجَتِهِ- إِلَّا أَنَّهُ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهِ وَامْتِلَاءِ قَلْبِهِ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ يَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ مُلَاحَظَةِ حَالِ غَيْرِهِ، وَعَنْ شُهُودِ النِّسْبَةِ بَيْنَ حَالِهِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ. وَيَرَى اشْتِغَالَهُ بِذَلِكَ وَالْتِفَاتَهُ إِلَيْهِ نُزُولًا عَنْ مَقَامِهِ، وَانْحِطَاطًا عَنْ دَرَجَتِهِ، وَرُجُوعًا عَلَى عَقِبَيْهِ. فَإِنْ هَجَمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ- بِغَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ وَاخْتِيَارٍ- فَلْيُدَاوِهِ بِشُهُودِ الْمِنَّةِ، وَخَوْفِ الْمَكْرِ، وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْعَاقِبَةِ الَّتِي يُوَافَى عَلَيْهَا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الزُّهْدِ:

وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الزُّهْدِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}- إِلَى قَوْلِهِ- {وَخَيْرٌ أَمَلًا} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وَقَالَ: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} وَقَالَ: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}.
وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنَ التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِخْبَارِ بِخِسَّتِهَا، وَقِلَّتِهَا وَانْقِطَاعِهَا، وَسُرْعَةِ فَنَائِهَا. وَالتَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْإِخْبَارِ بِشَرَفِهَا وَدَوَامِهَا. فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا أَقَامَ فِي قَلْبِهِ شَاهِدًا يُعَايِنُ بِهِ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيُؤْثِرُ مِنْهُمَا مَا هُوَ أَوْلَى بِالْإِيثَارِ.
وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الزُّهْدِ وَكَلٌّ أَشَارَ إِلَى ذَوْقِهِ. وَنَطَقَ عَنْ حَالِهِ وَشَاهِدِهِ. فَإِنَّ غَالِبَ عِبَارَاتِ الْقَوْمِ عَنْ أَذْوَاقِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. وَالْكَلَامُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ أَوْسَعُ مِنَ الْكَلَامِ بِلِسَانِ الذَّوْقِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ- يَقُولُ: الزُّهْدُ تَرْكُ مَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ. وَالْوَرَعُ تَرْكَ مَا تَخَافُ ضَرَرُهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَأَجْمَعِهَا.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قِصَرُ الْأَمَلِ. لَيْسَ بِأَكْلِ الْغَلِيظِ، وَلَا لُبْسِ الْعَبَاءِ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ:سَمِعْتُ سَرِيًّا يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَلَبَ الدُّنْيَا عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَحَمَاهَا عَنْ أَصْفِيَائِهِ، وَأَخْرَجَهَا مِنْ قُلُوبِ أَهْلِ وِدَادِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَهَا لَهُمْ.
وَقَالَ: الزُّهْدُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فَالزَّاهِدُ لَا يَفْرَحُ مِنَ الدُّنْيَا بِمَوْجُودٍ. وَلَا يَأْسَفُ مِنْهَا عَلَى مَفْقُودٍ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الزُّهْدُ يُورِثُ السَّخَاءَ بِالْمُلْكِ، وَالْحُبُّ يُورِثُ السَّخَاءَ بِالرُّوحِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَلَاءِ: الزُّهْدُ هُوَ النَّظَرُ إِلَى الدُّنْيَا بِعَيْنِ الزَّوَالِ، فَتَصْغُرُ فِي عَيْنَيْكَ، فَيَسْهُلُ عَلَيْكَ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا.
وَقَالَ ابْنُ خَفِيفٍ: الزُّهْدُ وُجُودُ الرَّاحَةِ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْمُلْكِ.
وَقَالَ أَيْضًا: الزُّهْدُ سُلُوُّ الْقَلْبِ عَنِ الْأَسْبَابِ، وَنَفُضُّ الْأَيْدِي مِنَ الْأَمْلَاكِ.
وَقِيلَ: هُوَ عُزُوفُ الْقَلْبِ عَنِ الدُّنْيَا بِلَا تَكَلُّفٍ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الزُّهْدُ خُلُوُّ الْقَلْبِ عَمَّا خَلَتْ مِنْهُ الْيَدُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قِصَرُ الْأَمَلِ.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ عَدَمُ فَرَحِهِ بِإِقْبَالِهَا. وَلَا حُزْنِهِ عَلَى إِدْبَارِهَا. فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ مَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ. هَلْ يَكُونُ زَاهِدًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. عَلَى شَرِيطَةِ أَنْ لَا يَفْرَحَ إِذَا زَادَتْ، وَلَا يَحْزَنَ إِذَا نَقَصَتْ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هُوَ الثِّقَةُ بِاللَّهِ مَعَ حُبِّ الْفَقْرِ. وَهَذَا قَوْلُ شَقِيقٍ وَيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ: الزُّهْدُ: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَالدِّرْهَمِ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: تَرْكُ مَا يُشْغِلُ عَنِ اللَّهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشِّبْلِيِّ.
وَسَأَلَ رُوَيْمٌ الْجُنَيْدَ عَنِ الزُّهْدِ؟ فَقَالَ: اسْتِصْغَارُ الدُّنْيَا، وَمَحْوُ آثَارِهَا مِنَ الْقَلْبِ. وَقَالَ مَرَّةً: هُوَ خُلُوِّ الْيَدِ عَنِ الْمُلْكِ، وَالْقَلْبِ عَنِ التَّتَبُّعِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ حَقِيقَةَ الزُّهْدِ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: عَمَلٌ بِلَا عَلَاقَةٍ، وَقَوْلٌ بِلَا طَمَعٍ، وَعِزٌّ بِلَا رِيَاسَةٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: الزَّاهِدُ يُسْعِطُكَ الْخَلَّ وَالْخَرْدَلَ، وَالْعَارِفُ يُشِمُّكَ الْمِسْكَ وَالْعَنْبَرَ.
وَقِيلَ: حَقِيقَتُهُ هُوَ الزُّهْدُ فِي النَّفْسِ. وَهَذَا قَوْلُ ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ.
وَقِيلَ: الزُّهْدُ الْإِيثَارُ عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ، وَالْفُتُوَّةُ: الْإِيثَارُ عِنْدَ الْحَاجَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
وَقَالَ رَجُلٌ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ: مَتَى أَدْخُلُ حَانُوتَ التَّوَكُّلِ، وَأَلْبَسُ رِدَاءَ الزَّاهِدِينَ، وَأَقْعُدُ مَعَهُمْ؟ فَقَالَ: إِذَا صِرْتَ مِنْ رِيَاضَتِكَ لِنَفْسِكَ إِلَى حَدٍّ لَوْ قَطَعَ اللَّهُ الرِّزْقَ عَنْكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَمْ تَضْعُفْ نَفْسُكَ. فَأَمَّا مَا لَمْ تَبْلُغْ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ فَجُلُوسُكَ عَلَى بِسَاطِ الزَّاهِدِينَ جَهْلٌ، ثُمَّ لَا آمَنُ عَلَيْكَ أَنْ تَفْتَضِحَ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الزُّهْدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ تَرْكُ الْحَرَامِ. وَهُوَ زُهْدُ الْعَوَامِّ. وَالثَّانِي تَرْكُ الْفُضُولِ مِنَ الْحَلَالِ. وَهُوَ زُهْدُ الْخَوَاصِّ. وَالثَّالِثُ تَرْكُ مَا يَشْغَلُ عَنِ اللَّهِ. وَهُوَ زُهْدُ الْعَارِفِينَ.
وَهَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ، مَعَ زِيَادَةِ تَفْصِيلِهِ وَتَبْيِينِ دَرَجَاتِهِ. وَهُوَ مِنْ أَجْمَعِ الْكَلَامِ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رِضَى اللَّهِ عَنْهُ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى. وَقَدْ شَهِدَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِمَامَتِهِ فِي ثَمَانِيَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا الزُّهْدُ.
وَالَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعَارِفُونَ أَنَّ الزُّهْدَ سَفَرُ الْقَلْبِ مِنْ وَطَنِ الدُّنْيَا، وَأَخْذُهُ فِي مَنَازِلِ الْآخِرَةِ. وَعَلَى هَذَا صَنَّفَ الْمُتَقَدِّمُونَ كُتُبَ الزُّهْدِ. كَالزُّهْدِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلِوَكِيعٍ، وَلِهَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، وَلِغَيْرِهِمْ.
وَمُتَعَلِّقُهُ سِتَّةُ أَشْيَاءَ. لَا يَسْتَحِقُّ الْعَبْدُ اسْمَ الزُّهْدِ حَتَّى يَزْهَدَ فِيهَا. وَهِيَ الْمَالُ، وَالصُّوَرُ، وَالرِّيَاسَةُ، وَالنَّاسُ، وَالنَّفْسُ، وَكُلُّ مَا دُونُ اللَّهِ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ رَفْضَهَا مِنَ الْمُلْكِ. فَقَدْ كَانَ سُلَيْمَانُ وَدَاوُدُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنْ أَزْهَدِ أَهْلِ زَمَانِهِمَا. وَلَهُمَا مِنَ الْمَالِ وَالْمُلْكِ وَالنِّسَاءِ مَا لَهُمَا. وَكَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْهَدِ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَلَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ. وَكَانَ عَلِيُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرُ وَعُثْمَانُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- مِنَ الزُّهَّادِ. مَعَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الزُّهَّادِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْثَرِ الْأُمَّةِ مَحَبَّةً لِلنِّسَاءِ وَنِكَاحًا لَهُنَّ، وَأَغْنَاهُمْ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الزُّهَّادِ، مَعَ مَالٍ كَثِيرٍ. وَكَذَلِكَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الزُّهَّادِ. وَكَانَ لَهُ رَأْسُ مَالٍ يَقُولُ: لَوْلَا هُوَ لَتَمَنْدَلَ بِنَا هَؤُلَاءِ.
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الزُّهْدِ، كَلَامُ الْحَسَنِ أَوْ غَيْرِهِ: لَيْسَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ. وَلَكِنْ أَنْ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقُ مِنْكَ بِمَا فِي يَدِكَ، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ- إِذَا أُصِبْتَ بِهَا- أَرْغَبُ مِنْكَ فِيهَا لَوْ لَمْ تُصِبْكَ. فَهَذَا مِنْ أَجْمَعِ كَلَامٍ فِي الزُّهْدِ وَأَحْسَنِهِ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا.

.فَصْلٌ: [اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي الزُّهْدِ]:

وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الزُّهْدِ هَلْ هُوَ مُمْكِنٌ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ أَمْ لَا؟
فَقَالَ أَبُو حَفْصٍ: الزُّهْدُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَلَالِ. وَلَا حَلَالَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا زُهْدَ. وَخَالَفَهُ النَّاسُ فِي هَذَا. وَقَالُوا: بَلِ الْحَلَالُ مَوْجُودٌ فِيهَا. وَفِيهَا الْحَرَامُ كَثِيرًا. وَعَلَى تَقْدِيرِ: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا الْحَلَالُ، فَهَذَا أَدْعَى إِلَى الزُّهْدِ فِيهَا، وَتَنَاوُلِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْمُضْطَرُّ مِنْهَا، كَتَنَاوُلِهِ لِلْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ.
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: لَوْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا بَلَغَ فِي الزُّهْدِ مَنْزِلَةَ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَسَلْمَانَ وَالْمِقْدَادِ وَأَشْبَاهِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا قُلْتُ لَهُ زَاهِدٌ؛ لِأَنَّ الزُّهْدَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَلَالِ الْمَحْضِ. وَالْحَلَالُ الْمَحْضُ لَا يُوجَدُ فِي زَمَانِنَا هَذَا. وَأَمَّا الْحَرَامُ فَإِنِ ارْتَكَبْتَهُ عَذَّبَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي مُتَعَلِّقِ الزُّهْدِ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الزُّهْدُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَلَالِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْحَرَامِ فَرِيضَةٌ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلِ الزُّهْدُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْحَرَامِ. وَأَمَّا الْحَلَالُ فَنِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ. وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ. فَشُكْرُهُ عَلَى نِعَمِهِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهَا عَلَى طَاعَتِهِ، وَاتِّخَاذُهَا طَرِيقًا إِلَى جَنَّتِهِ أَفْضَلُ مِنَ الزُّهْدِ فِيهَا، وَالتَّخَلِّي عَنْهَا، وَمُجَانَبَةِ أَسْبَابِهَا.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا إِنْ شَغَلَتْهُ عَنِ اللَّهِ. فَالزُّهْدُ فِيهَا أَفْضَلُ. وَإِنْ لَمْ تَشْغَلْهُ عَنِ اللَّهِ، بَلْ كَانَ شَاكِرًا لِلَّهِ فِيهَا، فَحَالُهُ أَفْضَلُ. وَالزُّهْدُ فِيهَا تَجْرِيدُ الْقَلْبِ عَنِ التَّعَلُّقِ بِهَا، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: [الزُّهْدُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَامَّةِ وَلِلْمُرِيدِ]:

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:
الزُّهْدُ هُوَ إِسْقَاطُ الرَّغْبَةِ عَنِ الشَّيْءِ بِالْكُلِّيَّةِ.
يُرِيدُ بِالشَّيْءِ الْمَزْهُودِ فِيهِ مَا سِوَى اللَّهِ. وَالْإِسْقَاطُ عَنْهُ إِزَالَتُهُ عَنِ الْقَلْبِ وَإِسْقَاطُ تَعَلُّقِ الرَّغْبَةِ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: بِالْكُلِّيَّةِ؛ أَيْ بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَشَوَّقُ إِلَيْهِ.
قَالَ: وَهُوَ لِلْعَامَّةِ قُرْبَةٌ. وَلِلْمُرِيدِ ضَرُورَةٌ. وَلِلْخَاصَّةِ خَشْيَةٌ الزُّهْدُ.
يَعْنِي أَنَّ الْعَامَّةَ تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ. وَالْقُرْبَةُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُتَقَرِّبُ إِلَى مَحْبُوبِهِ. وَهُوَ ضَرُورَةٌ لِلْمُرِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ التَّخَلِّي بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ، إِلَّا بِإِسْقَاطِ الرَّغْبَةِ فِيمَا سِوَى مَطْلُوبِهِ. فَهُوَ مُضْطَرٌّ إِلَى الزُّهْدِ، كَضَرُورَتِهِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. إِذِ التَّعَلُّقُ بِسِوَى مَطْلُوبِهِ لَا يَعْدِمُ مِنْهُ حِجَابًا، أَوْ وَقْفَةً، أَوْ نَكْسَةً، عَلَى حَسَبِ بُعْدِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ مَطْلُوبِهِ، وَقُوَّةِ تَعَلُّقِهِ بِهِ وَضَعْفِهِ.
وَإِنَّمَا كَانَ خَشْيَةً لِلْخَاصَّةِ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَى مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْقُرْبِ وَالْأُنْسِ بِاللَّهِ، وَقُرَّةِ عُيُونِهِمْ بِهِ أَنْ يَتَكَدَّرَ عَلَيْهِمْ صَفْوُهُ بِالْتِفَاتِهِمْ إِلَى مَا سِوَى اللَّهِ. فَزُهْدُهُمْ خَشْيَةٌ وَخَوْفٌ.

.[دَرَجَاتُ الزُّهْدِ]:

.[الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الزُّهْدُ فِي الشُّبْهَةِ]:

قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى الزُّهْدُ فِي الشُّبْهَةِ. بَعْدَ تَرْكِ الْحَرَامِ بِالْحَذَرِ مِنَ الْمَعْتَبَةِ، وَالْأَنَفَةِ مِنَ الْمَنْقَصَةِ، وَكَرَاهَةِ مُشَارَكَةِ الْفُسَّاقِ.
أَمَّا الزُّهْدُ فِي الشُّبْهَةِ فَهُوَ تَرْكُ مَا يُشْتَبَهُ عَلَى الْعَبْدِ هَلْ هُوَ حَلَالٌ، أَوْ حَرَامٌ؟ كَمَا فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ. وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ. وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ. لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ اتَّقَى الْحَرَامَ. وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبَهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى. يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ. أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى. أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ. أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ. وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ. أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
فَالشُّبُهَاتُ بَرْزَخٌ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ كُلِّ مُتَبَايِنَيْنِ بَرْزَخًا، كَمَا جَعَلَ الْمَوْتَ وَمَا بَعْدَهُ بَرْزَخًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَجَعَلَ الْمَعَاصِيَ بَرْزَخًا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ. وَجَعَلَ الْأَعْرَافَ بَرْزَخًا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.
وَكَذَلِكَ جَعَلَ بَيْنَ كُلِّ مَشْعَرَيْنِ مِنْ مَشَاعِرَ الْمَنَاسِكِ بَرْزَخًا حَاجِزًا بَيْنَهُمَا لَيْسَ مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا. فَمُحَسِّرٌ بَرْزَخٌ بَيْنَ مِنًى وَمُزْدَلِفَةَ، لَيْسَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَلَا يَبِيتُ بِهِ الْحَاجُّ لَيْلَةَ جَمْعٍ، وَلَا لَيَالِيَ مِنًى. وَبَطْنُ عُرَنَةَ بَرْزَخٌ بَيْنَ عَرَفَةَ وَبَيْنَ الْحَرَمِ. فَلَيْسَ مِنَ الْحَرَمِ وَلَا مِنْ عَرَفَةَ. وَكَذَلِكَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ بَرْزَخٌ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. لَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ، لِتَصَرُّمِهِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ. وَلَا مِنَ النَّهَارِ لِأَنَّهُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَإِنْ دَخَلَ فِي اسْمِ الْيَوْمَ شَرْعًا.
وَكَذَلِكَ مَنَازِلُ السَّيْرِ بَيْنَ كُلِّ مَنْزِلَتَيْنِ بَرْزَخٌ يَعْرِفُهُ السَّائِرُ فِي تِلْكَ الْمَنَازِلِ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْوَارِدَاتِ تَكُونُ بَرَازِخَ، فَيَظُنُّهَا صَاحِبُهَا غَايَةً. وَهَذَا لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهُ إِلَّا فُقَهَاءُ الطَّرِيقِ، وَالْعُلَمَاءُ هُمُ الْأَدِلَّةُ فِيهَا.
وَقَوْلُهُ: بَعْدَ تَرْكِ الْحَرَامِ؛ أَيْ تَرْكِ الشُّبْهَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَرْكِ الْحَرَامِ.
وَقَوْلُهُ: بِالْحَذَرِ مِنَ الْمَعْتَبَةِ، يَعْنِي أَنْ يَكُونَ سَبَبَ تَرْكِهِ لِلشُّبْهَةِ الْحَذَرُ مِنْ تَوَجُّهِ عَتَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: وَالْأَنَفَةِ مِنَ الْمَنْقَصَةِ؛ أَيْ يَأْنَفُ لِنَفْسِهِ مِنْ نَقْصِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنَيْهِ. لَا أَنَفَتُهُ مِنْ نَقْصِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ أُعِينُهُمْ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مَذْمُومًا، بَلْ هُوَ مَحْمُودٌ أَيْضًا. وَلَكِنَّ الْمَذْمُومَ أَنْ تَكُونَ أَنَفَتُهُ كُلُّهَا مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَأْنَفُ مِنَ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: وَكَرَاهَةِ مُشَارَكَةِ الْفُسَّاقِ؛ يَعْنِي أَنَّ الْفُسَّاقَ يَزْدَحِمُونَ عَلَى مَوَاضِعِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا. وَلِتِلْكَ الْمَوَاقِفِ بِهِمْ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ. فَالزَّاهِدُ يَأْنَفُ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ فِي تِلْكَ الْمَوَاقِفِ. وَيَرْفَعُ نَفْسَهُ عَنْهَا، لِخِسَّةِ شُرَكَائِهِ فِيهَا، كَمَا قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: مَا الَّذِي زَهَّدَكَ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: قِلَّةُ وَفَائِهَا، وَكَثْرَةُ جَفَائِهَا، وَخِسَّةُ شُرَكَائِهَا.
إِذَا لَمْ أَتْرُكِ الْمَاءَ اتِّقَاءً ** تَرَكْتُ لِكَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ فِيهِ

إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ عَلَى طَعَامٍ ** رَفَعَتْ يَدَيْ وَنَفْسِي تَشْتَهِيهِ

وَتَجْتَنِبُ الْأُسُودُ وُرُودَ مَاءٍ ** إِذَا كَانَ الْكِلَابُ يَلِغْنَ فِيهِ

.[الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الزُّهْدُ فِي الْفُضُولِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الزُّهْدُ فِي الْفُضُولِ. وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الْمُسْكَةِ وَالْبَلَاغِ مِنَ الْقُوتِ، بِاغْتِنَامِ التَّفَرُّغِ إِلَى عِمَارَةِ الْوَقْتِ. وَحَسْمِ الْجَأْشِ، وَالتَّحَلِّي بِحِلْيَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ.
الْفُضُولُ مَا يَفْضُلُ عَنْ قَدَرِ الْحَاجَةِ. وَالْمُسْكَةُ مَا يَمْسِكُ النَّفْسَ مِنَ الْقُوتِ وَالشَّرَابِ، وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ، وَالْمَنْكَحِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ. وَالْبَلَاغُ هُوَ الْبُلْغَةُ مِنْ ذَلِكَ، الَّذِي يَتَبَلَّغُ بِهِ الْمُسَافِرُ فِي مَنَازِلَ السَّفَرِ. فَيَزْهَدُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، اغْتِنَامًا لِتَفَرُّغِهِ لِعِمَارَةِ وَقْتِهِ.
وَلَمَّا كَانَ الزُّهْدُ لِأَهْلِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى خَوْفًا مِنَ الْمَعْتَبَةِ، وَحَذَرًا مِنَ الْمَنْقَصَةِ كَانَ الزُّهْدُ لِأَهْلِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَعْلَى وَأَرْفَعَ. وَهُوَ اغْتِنَامُ الْفَرَاغِ لِعِمَارَةِ أَوْقَاتِهِمْ مَعَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِفُضُولِ الدُّنْيَا، فَاتَهُ نَصِيبُهُ مِنَ انْتِهَازِ فُرْصَةِ الْوَقْتِ. فَالْوَقْتُ سَيْفٌ إِنْ لَمْ تَقْطَعْهُ وَإِلَّا قَطَعَكَ.
وَعِمَارَةُ الْوَقْتِ الِاشْتِغَالُ فِي جَمِيعِ آنَائِهِ بِمَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ، أَوْ يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَأْكَلٍ أَوْ مُشْرَبٍ، أَوْ مَنْكَحٍ، أَوْ مَنَامٍ، أَوْ رَاحَةٍ. فَإِنَّهُ مَتَى أَخَذَهَا بِنِيَّةِ الْقُوَّةِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَتَجَنُّبِ مَا يُسْخِطُهُ. كَانَتْ مِنْ عِمَارَةِ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا أَتَمُّ لَذَّةٍ فَلَا تُحْسَبُ عِمَارَةُ الْوَقْتِ بِهَجْرِ اللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ.
فَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ رُبَّمَا كَانَ سَيْرُهُ الْقَلْبِيُّ فِي حَالِ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ، وَجِمَاعِ أَهْلِهِ وَرَاحَتِهِ، أَقْوَى مِنْ سَيْرِهِ الْبَدَنِيِّ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَرِدُ عَلَيْهِ- وَهُوَ عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِهِ- حَالٌ لَا يَعْهَدُهَا فِي غَيْرِهَا.
وَلِهَذَا سَبَبٌ صَحِيحٌ. وَهُوَ اجْتِمَاعُ قُوَى النَّفْسِ وَعَدَمُ الْتِفَاتِهَا حِينَئِذٍ إِلَى شَيْءٍ، مَعَ مَا يَحْصُلُ لَهَا مِنَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ. وَالسُّرُورُ يُذَكِّرُ بِالسُّرُورِ. وَاللَّذَّةُ تُذَكِّرُ بِاللَّذَّةِ. فَتَنْهَضُ الرُّوحُ مِنْ تِلْكَ الْفَرْحَةِ وَاللَّذَّةِ إِلَى مَا لَا نِسْبَةَ بَيْنِهَا وَبَيْنَهَا بِتِلْكَ الْجَمْعِيَّةِ، وَالْقُوَّةِ وَالنَّشَاطِ، وَقَطْعِ أَسْبَابِ الِالْتِفَاتِ، فَيُورِثُهُ ذَلِكَ حَالًا عَجِيبَةً.
وَلَا تَعْجَلْ بِالْإِنْكَارِ. وَانْظُرْ إِلَى قَلْبِكَ عِنْدَ هُجُومِ أَعْظَمِ مَحْبُوبٍ لَهُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، كَيْفَ تَرَاهُ؟ فَهَكَذَا حَالُ غَيْرِكَ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْسَ إِذَا نَالَتْ حَظًّا صَالِحًا مِنَ الدُّنْيَا قَوِيتْ بِهِ وَسُرَّتْ، وَاسْتَجْمَعَتْ قُوَاهَا وَجَمْعِيَّتَهَا. وَزَالَ تَشَتُّتُهَا.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ. فَقَدْ طَغَى الْقَلَمُ. وَزَادَ الْكَلِمُ، فَعِيَاذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ مَقْتِكَ.
وَأَمَّا حَسْمُ الْجَأْشِ فَهُوَ قَطْعُ اضْطِرَابِ الْقَلْبِ، الْمُتَعَلِّقِ بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا، رَغْبَةً وَرَهْبَةً، وِحُبًّا وَبُغْضًا، وَسَعْيًا. فَلَا يَصِحُّ الزُّهْدُ لِلْعَبْدِ حَتَّى يَقْطَعَ هَذَا الِاضْطِرَابَ مِنْ قَلْبِهِ. بِأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَيْهَا، وَلَا يَتَعَلَّقَ بِهَا فِي حَالَتَيْ مُبَاشَرَتِهِ لَهَا وَتَرْكِهِ. فَإِنَّ الزُّهْدَ زُهْدُ الْقَلْبِ، لَا زُهْدُ التَّرْكِ مِنَ الْيَدِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ. فَهُوَ تَخَلِّي الْقَلْبِ عَنْهَا. لَا خُلُوُّ الْيَدِ مِنْهَا.
وَأَمَّا التَّحَلِّي بِحِلْيَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا حَقًّا. إِذْ هُمْ مُشَمِّرُونَ إِلَى عَلَمٍ قَدْ رُفِعَ لَهُمْ غَيْرُهَا. فَهُمْ زَاهِدُونَ، وَإِنْ كَانُوا لَهَا مُبَاشِرِينَ.

.فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الزُّهْدُ فِي الزُّهْدِ]:

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الزُّهْدُ فِي الزُّهْدِ. وَهُوَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: اسْتِحْقَارُ مَا زَهِدْتَ فِيهِ. وَاسْتِوَاءُ الْحَالَاتِ فِيهِ عِنْدَكَ. وَالذَّهَابُ عَنْ شُهُودِ الِاكْتِسَابِ، نَاظِرًا إِلَى وَادِي الْحَقَائِقِ.
وَقَدْ فَسَّرَ الشَّيْخُ مُرَادَهُ بِالزُّهْدِ فِي الزُّهْدِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ.
أَحَدُهَا: احْتِقَارُهُ مَا زَهِدَ فِيهِ. فَإِنَّ مَنِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ لَا يَرَى أَنَّ مَا تَرَكَهُ لِأَجْلِهِ مِنَ الدُّنْيَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجْعَلَ قُرْبَانًا؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لَا تُسَاوِي عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. فَالْعَارِفُ لَا يَرَى زُهْدَهُ فِيهَا كَبِيرَ أَمْرٍ يُعْتَدُّ بِهِ وَيُحْتَفَلُ لَهُ، فَيَسْتَحِي مَنْ صَحَّ لَهُ الزُّهْدُ أَنْ يَجْعَلَ لِمَا تَرَكَهُ لِلَّهِ قَدْرًا يُلَاحَظُ زُهْدَهُ فِيهِ، بَلْ يَفْنَى عَنْ زُهْدِهِ فِيهِ كَمَا فَنِيَ عَنْهُ. وَيَسْتَحِي مِنْ ذِكْرِهِ بِلِسَانِهِ، وَشُهُودِهِ بِقَلْبِهِ.
وَأَمَّا اسْتِوَاءُ الْحَالَاتِ فِيهِ عِنْدَهُ فَهُوَ أَنْ يَرَى تَرْكَ مَا زَهِدَ فِيهِ وَأَخْذَهُ مُتَسَاوِيَيْنِ عِنْدَهُ. إِذْ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ قَدْرٌ. وَهَذَا مِنْ دَقَائِقَ فِقْهِ الزُّهْدِ. فَيَكُونُ زَاهِدًا فِي حَالِ أَخْذِهِ، كَمَا هُوَ زَاهِدٌ فِي حَالِ تَرْكِهِ، إِذْ هِمَّتُهُ أَعْلَى مِنْ مُلَاحَظَتِهِ أَخْذًا وَتَرْكًا، لِصِغَرِهِ فِي عَيْنِهِ.
وَأَمَّا الذَّهَابُ عَنْ شُهُودِ الِاكْتِسَابِ فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنِ اسْتَصْغَرَ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَاسْتَوَتِ الْحَالَاتُ فِي أَخْذِهَا وَتَرْكِهَا عِنْدَهُ لَمْ يَرَ أَنَّهُ اكْتَسَبَ بِتَرْكِهَا عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَةً الْبَتَّهَ؛ لِأَنَّهَا أَصْغَرُ فِي عَيْنِهِ مِنْ أَنْ يَرَى أَنَّهُ اكْتَسَبَ بِتَرْكِهَا الدَّرَجَاتِ.
وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يُشَاهِدَ تَفَرُّدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ. فَلَا يَرَى أَنَّهُ تَرَكَ شَيْئًا وَلَا أَخَذَ شَيْئًا. بَلِ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ. فَمَا أَخَذَهُ فَهُوَ مَجْرًى لِعَطَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُ، كَمَجْرَى الْمَاءِ فِي النَّهْرِ. وَمَا تَرَكَهُ لِلَّهِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي مَنَعَهُ مِنْهُ. فَيَذْهَبُ بِمُشَاهَدَةِ الْفَعَّالِ وَحْدَهُ عَنْ شُهُودِ كَسْبِهِ وَتَرْكِهِ. فَإِذَا نَظَرَ إِلَى الْأَشْيَاءِ بِعَيْنِ الْجَمْعِ، وَسَلَكَ فِي وَادِي الْحَقِيقَةِ، غَابَ عَنْ شُهُودِ اكْتِسَابِهِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: نَاظِرًا إِلَى وَادِي الْحَقَائِقِ. وَهَذَا أَلْيَقُ الْمَعْنَيَيْنِ بِكَلَامِهِ. فَهَذَا زُهْدُ الْخَاصَّةِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا زَهَّدَتْنِي فِي الْهَوَى خَشْيَةُ الرَّدَى ** جَلَتْ لِي عَنْ وَجْهٍ يُزَهِّدُ فِي الزُّهْدِ

.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الْوَرَعِ:

وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْوَرَعِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: نَفْسَكَ فَطَهِّرْ مِنَ الذَّنْبِ. فَكَنَّى عَنِ النَّفْسِ بِالثَّوْبِ. وَهَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ، النَّخَعِيِّ وَالضَّحَّاكِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَلْبَسْهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَا غَدْرٍ. ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ:
وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ غَادِرٍ ** لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ

وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي وَصْفِ الرَّجُلِ بِالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ: طَاهِرُ الثِّيَابِ. وَتَقُولُ لِلْغَادِرِ وَالْفَاجِرِ: دَنِسُ الثِّيَابِ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: لَا تَلْبَسْهَا عَلَى الْغَدْرِ، وَالظُّلْمِ وَالْإِثْمِ. وَلَكِنِ الْبِسْهَا وَأَنْتَ بَرٌّ طَاهِرُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَمَلَكَ فَأَصْلِحْ. قَالَ السَّعْدِيُّ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ صَالِحًا: إِنَّهُ لَطَاهِرُ الثِّيَابِ. وَإِذَا كَانَ فَاجِرًا: إِنَّهُ لَخَبِيثُ الثِّيَابِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَقَلْبَكَ وَبَيْتَكَ فَطَهِّرْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْقُرَظِيُّ: وَخُلُقَكَ فَحَسِّنْ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ زَيْدٍ: أَمَرَ بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الَّتِي لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَتَطَهَّرُونَ، وَلَا يُطَهِّرُونَ ثِيَابَهُمْ.
وَقَالَ طَاوُسٌ: وَثِيَابَكَ فَقَصِّرْ؛ لِأَنَّ تَقْصِيرَ الثِّيَابِ طُهْرَةً لَهَا.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَطْهِيرَهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ وَتَقْصِيرَهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّطْهِيرِ الْمَأْمُورِ بِهِ، إِذْ بِهِ تَمَامُ إِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الظَّاهِرِ تُورِثُ نَجَاسَةَ الْبَاطِنِ. وَلِذَلِكَ أَمَرَ الْقَائِمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِإِزَالَتِهَا وَالْبُعْدِ عَنْهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْوَرِعَ يُطَهِّرُ دَنَسَ الْقَلْبِ وَنَجَاسَتَهُ. كَمَا يُطَهِّرُ الْمَاءُ دَنَسَ الثَّوْبِ وَنَجَاسَتَهُ. وَبَيْنَ الثِّيَابِ وَالْقُلُوبِ مُنَاسِبَةٌ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ. وَلِذَلِكَ تَدُلُّ ثِيَابُ الْمَرْءِ فِي الْمَنَامِ عَلَى قَلْبِهِ وَحَالِهِ. وَيُؤَثِّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ. وَلِهَذَا نَهَى عَنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، وَجُلُودِ السِّبَاعِ، لِمَا تُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ مِنَ الْهَيْئَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلْعُبُودِيَّةِ وَالْخُشُوعِ. وَتَأْثِيرُ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ فِي الثِّيَابِ أَمْرٌ خَفِيٌّ يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصَائِرِ مِنْ نَظَافَتِهَا وَدَنَسِهَا وَرَائِحَتِهَا، وَبَهْجَتِهَا وَكَسْفَتِهَا، حَتَّى إِنَّ ثَوْبَ الْبَرِّ لَيُعْرَفُ مِنْ ثَوْبِ الْفَاجِرِ، وَلَيْسَا عَلَيْهِمَا.
وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَرَعَ كُلَّهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» فَهَذَا يَعُمُّ التَّرْكَ لِمَا لَا يَعْنِي مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ، وَالِاسْتِمَاعِ، وَالْبَطْشِ، وَالْمَشْيِ، وَالْفِكْرِ، وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ كَافِيَةٌ شَافِيَةٌ فِي الْوَرَعِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: الْوَرَعُ تَرْكُ كُلِّ شُبْهَةٍ، وَتَرْكُ مَالَا يَعْنِيكَ هُوَ تَرْكُ الْفَضَلَاتِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا، تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ».
قَالَ الشِّبْلِيُّ: الْوَرَعُ أَنْ يُتَوَرَّعَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ خَلَفٍ: الْوَرَعُ فِي الْمَنْطِقِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالزُّهْدُ فِي الرِّيَاسَةِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِأَنَّهُمَا يُبْذَلَانِ فِي طَلَبِ الرِّيَاسَةِ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: الْوَرَعُ أَوَّلُ الزُّهْدِ، كَمَا أَنَّ الْقَنَاعَةَ أَوَّلُ الرِّضَا.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْوَرَعُ الْوُقُوفُ عَلَى حَدِّ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ. وَقَالَ: الْوَرَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَرَعٌ فِي الظَّاهِرِ، وَوَرَعٌ فِي الْبَاطِنِ، فَوَرَعُ الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَتَحَرَّكَ إِلَّا لِلَّهِ، وَوَرَعُ الْبَاطِنِ هُوَ أَنْ لَا تُدْخِلَ قَلْبَكَ سِوَاهُ. وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي الدَّقِيقِ مِنَ الْوَرَعِ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْجَلِيلِ مِنَ الْعَطَاءِ.
وَقِيلَ: الْوَرَعُ الْخُرُوجُ مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَتَرَكُ السَّيِّئَاتِ.
وَقِيلَ: مَنْ دَقَّ فِي الدُّنْيَا وَرَعُهُ- أَوْ نَظَرُهُ- جَلَّ فِي الْقِيَامَةِ خَطَرُهُ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: الْوَرَعُ الْخُرُوجُ مِنْ كُلِّ شُبْهَةِ، وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ فِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَسْهَلَ مِنَ الْوَرَعِ، مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ فَاتْرُكْهُ.
وَقَالَ سَهْلٌ: الْحَلَالُ هُوَ الَّذِي لَا يُعْصَى اللَّهُ فِيهِ، وَالصَّافِي مِنْهُ الَّذِي لَا يُنْسَى اللَّهُ فِيهِ، وَسَأَلَ الْحَسَنُ غُلَامًا. فَقَالَ لَهُ: مَا مِلَاكُ الدِّينِ؟ قَالَ: الْوَرَعُ. قَالَ: فَمَا آفَتُهُ؟ قَالَ: الطَّمَعُ. فَعَجِبَ الْحَسَنُ مِنْهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْوَرَعِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ مِثْقَالٍ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: جُلَسَاءُ اللَّهِ غَدًا أَهْلُ الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ.
وَقَالَ بَعْضَ السَّلَفِ: لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: كُنَّا نَدَعُ سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ نَقَعَ فِي بَابٍ مِنَ الْحَرَامِ.